فصل: تفسير الآيات (28- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (28- 48):

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)}
قوله عز وجل: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً} عامة {لِّلنَّاسِ} كلهم؛ العرب والعجم وسائر الأُمم. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا ابن فضيل قال: حدثنا يزيد بن أبي زياد عن مجاهد ومقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيتُ خمساً ولا أقول فخراً: بُعثت إلى الأحمر والأسود، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأُحل لي المغنم ولم يحل لأحد كان قبلي، ونُصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر وأُعطيت الشفاعة فادّخرتها لأُمتي يوم القيامة، وهي إن شاء الله نائلة من لم يشرك بالله شيئاً».
وقيل: معناه كافّ للناس. يكفّهم عما هم عليه من الكفر، ويدعوهم إلى الإسلام، والهاء فيه للمبالغة.
{بَشِيراً وَنَذِيراً ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ * وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب، ثم أخبر حالهم في مآلهم، فقال: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون}: الكافرون {مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول} يتلاومون ويحاور بعضهم بعضاً {يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} أي مكركم بنا. فهما كما يُقال: عزم الأمر وفلان نهاره صائم وليله قائم.
قال الشاعر:
ونمت وما ليل المطي بنائم [.....] وقيل: مكر الليل والنهار بهم طول السلامة فيهما كقوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد}، ونحوه. {إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ}: أظهروا {الندامة}، وهو من الأضداد؛ يكون بمعنى الإخفاء، والإبداء {لَمَّا رَأَوُاْ العذاب وَجَعَلْنَا الأغلال}: الجوامع من النار {في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُوا}: الأتباع والمتبوعين، {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا؟
{وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ}: رسول {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ}: رؤساؤها وأغنياؤها {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً} منكم، ولو لم يكن راضياً بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخوّلنا الأموال والأولاد.
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ}، وليس يدل ذلك على العواقب والمنقلب، {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أنها كذلك.
{وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ}: لكن من آمن {وَعَمِلَ صَالِحاً فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ} من الثواب بالواحد عشرة، و{من} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون محله نصباً بوقوع {تقرب} عليه، والآخر: رفع تقديره: وما هو إلاّ من آمن.
{وَهُمْ فِي الغرفات} الدرجات {آمِنُونَ}.
وقراءة العامة: {جَزَآءُ الضعف} بالإضافة، وقرأ يعقوب: {جزاءً} منصوباً منّوناً. الضعف رفع مجازه: فأُولئك لهم الضعف جزاء على التقديم والتأخير، وقراءة العامة: الغرفات بالجمع، واختاره أبو عبيد قال: لقوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً}، وقرأ الأعمش وحمزة: {في الغرفة} على الواحدة.
{والذين يَسْعَوْنَ}: يعملون {في آيَاتِنَا} بإبطال حججنا وكتابنا، و{مُعَاجِزِينَ} معاونين معاندين يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم ويعجزوننا، {أولئك فِي العذاب مُحْضَرُونَ} {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}. قال سعيد بن جبير: ما كان من غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه، وقال الكلبي: ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير والبر من نفقة فهو يخلفه إما أن يعجله في الدنيا وإما أن يدخر له في الآخرة. أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال: حدثنا أبي قال: حدثنا علي بن داوُد القنطري قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن عمرو بن الحرث عن أبي يونس مولى أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الله عزّ وجل قال لي: أنفق أُنفق عليك».
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا ابن شاذان عن جعونة بن محمد قال: حدثنا صالح ابن محمد عن سُليمان بن عمرو عن ابن حزم عن أنس بن مالك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُنادي مناد كلّ ليلة: لدوا للموت وينادي مناد: ابنوا للخراب، ويُنادي مُناد: اللهمّ هب للمنفق خلفاً، ويُنادي مناد: اللهم هب للممسك تلفاً، وينادي مناد: ليت الناس لم يخلقوا، وينادي مناد: ليتهم إذ خُلقوا فكروا فيما له خُلقوا».
وأخبرني الحسين بن محمد الحافظ قال: حدثنا موسى بن محمد قال: حدثنا الحسن بن علويه قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا المسيب، قال: حدثنا محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرَّحْمن عن أبيه قال: قال عمر لصهيب: إنك رجل لا تمسك شيئاً، قال: إني سمعت الله عز وجل يقول: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}.
{وَهُوَ خَيْرُ الرازقين}، وأخبرني أبو سُفيان الثقفي قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا الحسن بن داوُد الخشاب قال: حدثنا سُويد بن سعيد قال: حدثنا عبد الحميد بن الحسن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله فهو له صدقة وما وقى به عرضه فهو صدقة، وما أنفق المؤمن من نفقة فإنّ خلفها على الله ضامن إلاّ ما كان نفقة في بنيان أو معصية».
قال عبد الحميد: فقلت لمحمد: ما معنى «ما يقي به الرجل عرضه»؟ قال: يُعطي الشاعر أو ذا اللسان المتّقى.
وقال مجاهد: إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول هذه الآية {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} فإنّ الرزق مقسوم، فلعل رزقه قليل وهو يُنفق نفقة الموسع عليه، ومعنى الآية ما كان من خلف فهو منه، وربما أنفق الإنسان ماله أجمع في الخير ثم لم يزل عائلاً حتى يموت، ولكن ما كان من خلف فهو منه، ودليل تأويل مجاهد ما أخبرني أبو سُفيان الحسين بن محمد بن عبد الله قال: حدثنا محمد بن الحسين بن بشير قال: أخبرني أبو بكر بن أبي الخصيب قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا عمرو بن الحصين قال: حدثنا ابن علانة وهو محمد عن الأوزاعي عن ابن أبي موسى عن أبي أُمامة قال: إنكم تؤوّلون هذه الآية على غير تأويلها {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}.
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وإلاّ فصُمتا: «إياكم والسّرف في المال والنفقة، وعليكم بالاقتصاد، فما افتقر قوم قط اقتصدوا».
وقال عليه السلام: «ما عال من اقتصد».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن هاشم البغوي قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا عاصم بن خالد قال: أخبرني أبو بكر قال: حدثنا حمزة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فقه الرجل رفقه في معيشته».
{وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} وإنما جاز الجمع؛ لأنه يُقال: رزق السلطان الجند، وفلان يرزق عياله، كأنه قال: وهو خير المعطين.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} يعني هؤلاء الكفّار {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} في الدُّنيا؟ فتتبرأ منهم الملائكة فتقول: {سُبْحَانَكَ}: تنزيهاً لك. {أَنتَ وَلِيُّنَا}: ربنا {مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} أي يطيعون إبليس وذريته وأعوانه في معصيتك. {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}: مصدقون.
قال قتادة: هو استفهام تقديره كقوله لعيسى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني...} [المائدة: 116].
{فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً}: شفاعة ولا عذاباً، {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} في الدُّنيا فقد وردتموها.
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا} يعني محمداً عليه السلام {إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} يعنون القرآن {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَمَآ آتَيْنَاهُمْ} هؤلاء المشركين {مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} يقرؤونها {وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ * وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} من الأُمم رسلنا وتنزيلنا {وَمَا بَلَغُواْ} يعني هؤلاء المشركين {مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ} يعني مكذبي الأُمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر {فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}: إنكاري وتغيري عليهم، يحذر كفار هذه الأُمة عذاب الأُمم الماضية.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ} آمركم وأُوصيكم {بِوَاحِدَةٍ} بخصلة واحدة وهي {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ} لأجل الله و{أَن} في محل الخفض على البيان من {بِوَاحِدَةٍ} والترجمة عنها {مثنى} يعني اثنين اثنين متناظرين، {وفرادى} واحداً واحداً متفكرين {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} جميعاً، والفكر: طلب المعنى بالقلب، فتعلموا، {مَا بِصَاحِبِكُمْ} محمد {مِّن جِنَّةٍ} جنون كما تقولون، و{مَآ} جحْد ونفي. {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * قُلْ مَا سَأَلْتُكُم} على تبليغ الرسالة والنصيحة {مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} أي ما ثوابي إلاّ على الله {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ}: يرمي ويأتي {بالحق} ينزله من السماء إلى خير الأنبياء، {عَلاَّمُ الغيوب} رفع بخبر {إنّ}.

.تفسير الآيات (49- 53):

{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)}
{قُلْ جَآءَ الحق} القرآن والإسلام، وقال الباقر: يعني السيف. {وَمَا يُبْدِئُ الباطل وَمَا يُعِيدُ} يعني ذهب الباطل وزهق فلم تبقَ له بقية يبدي بها ولا يعيد، وهذا كقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}.
وقال الحسن: و{مَا يُبْدِئُ} الباطل، وهو كل معبود من دون الله لأهله خيراً في الدنيا و{مَا يُعِيدُ} في الآخرة.
وقال قتادة: الباطل إبليس، أي ما يخلق إبليس أحداً ولا يبعثه، وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبد الله بن إبراهيم بن علي عن محمد بن عمران بن هارون عن سفيان بن وكيع عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود معه ويقول: {وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} {جَآءَ الحق وَمَا يُبْدِئُ الباطل وَمَا يُعِيدُ}.
{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي} وآخذ بجنايتي {وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}.
{وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ} يعني من عذاب الدنيا، فلا نجاة {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} يعني عذاب الدُّنيا، وقال الضحاك وزيد بن أسلم: هو يوم بدر. الكلبي: من تحت أقدامهم.
وأخبرنا محمد بن نعيم عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن الحسن بن عطية عن يعقوب الأصفهاني عن ابن أبزي: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْت} قال: خسف بالبيداء.
أخبرني عقيل بن محمد أنّ المعافى بن زكريا البغدادي أخبرهم قال: أخبرنا محمد بن جرير قال: حدّثني عصام بن رواد بن الجراح قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا سُفيان بن سعيد قال: حدّثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر فتنة تكون بين أهل الشرق والمغرب: «فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق، فيبعث جيشين: جيشاً إلى المشرق، وجيشاً إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف، ويبقرون بها أكثر من مئة امرأة، ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس، ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام، فتخرج راية هدىً من الكوفة، فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم ولا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم، ويحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها. ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله سبحانه جبرائيل عليه السلام فيقول: يا جبرائيل اذهب فأبدهم. فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم، فذلك قوله عز وجل في سورة سبأ: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} فلا ينفلت منهم إلاّ رجلان: أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة».
فلذلك جاء القول: «وعند جهينة الخبر اليقين».
وقال قتادة: ذلك حين يخرجون من قبورهم، وقال ابن معقل: إذا عاينوا عذاب الله يوم القيامة وأُخذوا من مكان قريب؛ لأنهم حيث كانوا فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه.
{وقالوا} حين عاينوا العذاب في الدنيا والآخرة وقت البأس {آمَنَّا بِهِ وأنى}: من أين {لَهُمُ التناوش} تناول التوبة ونيل ما يتمنون؟ قال ابن عباس: يسألون الراد وليس يحين الرد، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: {التناؤش}: بالهمز والمد، وهو الإبطاء والبعد. يُقال: تناشيت الشيء أي أخذته من بعيد، والنيش الشيء البطيء.
قال الشاعر:
تمنى نئيشاً أن يكون أطاعني ** وقد حدثت بعد الأُمور أُمور

وقال آخر:
وجئت نئيشاً بعدها فاتك الخبر

وقرأ الباقون: بغير همز، من التناول. يُقال: نشته نوشاً إذا تناولته.
قال الراجز:
فهي تنوش الحوض نوشاً من علا ** نوشاً به تقطع أجواز الفلا

وتناوش القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضاً وتدانوا، واختار أبو عبيد: ترك الهمز؛ لأنّ معناه: التناول، وإذا همز كان معناه البعد. فكيف يقول: أنى لهم البعد {مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}: من الآخرة؟ فكيف يتناولون التوبة، وإنما يقبل التوبة في الدُّنيا وقد ذهبت الدُّنيا فصارت بعيدة من الآخرة؟
{وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ}، أي من قبل نزول العذاب {وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيد}، يعني يرمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالظنون لا باليقين، وهو قولهم: إنه ساحر، بل شاعر، بل كاهن، هذا قول مجاهد، وقال قتادة: يعني يرجمون بالظن، يقولون: لا بعث ولا جنّة ولا نار.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}، يعني التوبة والإيمان والرجوع إلى الدُّنيا {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم} أي أهل دينهم وموافقهم من الأُمم الماضية حين لم يقبل منهم الإيمان والتوبة في وقت البأس {إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ}.